فصل: الشاهد الثاني والعشرون بعد الثمانمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد التاسع عشر بعد الثمانمائة

تالله يبقى على الأيام ذو حيد *** بمشمخر به الظيان والآس

على أنه حذف من يبقى لا، والتقدير‏:‏ تالله لا يبقى‏.‏ وأنشده سيبويه بلفظ‏:‏

لله يبقى على الأيام البيت

على أن اللام فيه حرف قسم وتعجب، وهذا نصه‏:‏ وقد تقول‏:‏ تالله، وفيها معنى التعجب‏.‏

وبعض العرب يقول في هذا المعنى‏:‏ لله، فيجيء باللام، ولا يجيء إلا أن يكون فيه معنى التعجب‏.‏ وأنشد البيت‏.‏ وهو من قصيدة أولها‏:‏

يا مي إن تفقدي قوماً ولدتهم *** وتخلسيهم فإن الدهر خلاس

عمرو وعبد مناف والذي عهدت *** ببطن عرعر آبى الضيم عباس

يا مي إن سباع الأرض هالكة *** والعفر والأدم والآرام والناس

تالله لا يعجز الأيام مبترك *** في حومة الموت رزام وفراس

يحمي الصريمة أحدان الرجال له *** صيد ومستمع بالليل هجاس

ثم وصف الأسد بثلاثة أبيات، فقال‏:‏

يا مي لا يعجز الأيام ذو حيد *** بمشمخر به الظيان والآس

ثم وصف الوعل إلى آخر القصيدة، في سبعة أبيات، والبيتان الأولان من شواهد سيبويه‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد في قطع عمرو وما بعده ما قبله، وحمله على الابتداء‏.‏ ولو نصب على البدل من القوم لجاز‏.‏

ومعنى تخلسيهم بالبناء للمفعول‏:‏ تسلبيهم‏.‏ والخلس‏:‏ أخذ الشيء بسرعة‏.‏ أي‏:‏ إن أفقدك الدهر إياهم فذلك شأنه‏.‏

وأراد بعمرو‏:‏ عمرو بن عبد مناف بن قصي، وهو هاشم بن عبد مناف‏.‏ وأراد بالعباس العباس بن عبد المطلب‏.‏ وإنما ذكرهم، وقال‏:‏ ولدتهم لأنهم كلهم من ولد مدركة بن إلياس بن مضر‏.‏

وعرعر‏:‏ موضع‏.‏ وروي بدله‏:‏ ببطن مكة‏.‏ وآبي، من الإباء، وهو الامتناع‏.‏ والضيم‏:‏ الظلم‏.‏

وقد تقدم شرحهما في الشاهد الخامس والستين بعد الثلثمائة‏.‏

وقوله‏:‏ والعفر والأدم‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، العفر، بضم المهملة‏:‏ الظباء‏.‏ والأدم‏:‏ المسر منها، والآرام‏:‏ البيض منها‏.‏

وقوله‏:‏ تالله لا يعجز الأيام مع البيت بعده‏:‏ هما من شواهد سيبويه‏.‏ قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيهما جري الصفات على ما قبلها، مع ما فيها من معنى التعظيم، ولو نصب لجاز‏.‏

قال السكري‏:‏ الأيام هنا‏:‏ الموت‏.‏ والمتبرك‏:‏ المعتمد وهو الأسد‏.‏ وحومة الموت‏:‏ الموضع الذي يدور فيه الموت، لا يبرح منه‏.‏ والرزام‏:‏ المصوت‏.‏ يقال‏:‏ رزم الأسد يرزم‏.‏ وإذا برك الأسد على فريسة رزم‏.‏ وفراس‏:‏ يدق ما يصيبه‏.‏

والصريمة‏:‏ موضع‏.‏ وأحدان الرجال‏:‏ الذين يقول أحدهم‏:‏ أنا الذي لا نظير له في الشجاعة والبأس‏.‏ يقول‏:‏ هذا الأسد يصيد هؤلاء الذين يدلون بالشجاعة، وهو مع ذلك لا ينجو من الموت‏.‏ وقوله‏:‏

يا مي لا يعجز الأيام ذو حيد

هكذا وقع في جميع الروايات، ولكن سيبويه ثقة، والقول ما قالت حذام‏.‏ وقوله‏:‏ ذو حيد رواه المبرد بفتح الحاء المهملة والمثناة التحتية، وجعله مصدراً بمنزلة العوج والأود، وهو اعوجاج يكون في قرن الوعل‏.‏

ورواه ثعلب بكسر المهملة، وكذا السكري، وفسره بجمع حيدة، مثل حيض جمع حيضة‏.‏ والحيدة‏:‏ العقدة في قرن الوعل‏.‏ ومنهم من جعله جمع حيد، وهو كل نتوء في القرن والجبل وغيرهما‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو مصدر حاد يحيد حيداً بالسكون، فحركه للضرورة، ومعناه الروغان‏.‏ وروي‏:‏ ذو جيد بالجيم، وهو جناح مائل من الجبل‏.‏ وقيل‏:‏ يعني به الظبي‏.‏ والوعل‏:‏ التيس الجبلي‏.‏

وروى الحلواني بدله‏:‏ ذو خدم بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة‏.‏ وقال‏:‏ الخدم‏:‏ البياض المستدير في قوائم الثور، واحدها خدمة‏.‏

المشمخر‏:‏ الجبل الشامخ العالي‏.‏ والباء بمعنى في، متعلقة بمحذوف هو صفة لذي حيد‏.‏

وجملة به الظيان‏:‏ صفة لمشمخر‏.‏ والظيان بالظاء المعجمة وتشديد المثناة التحتية‏:‏ ياسمين البر‏.‏ والآس‏:‏ الريحان‏.‏ وإنما ذكرهما إشارة إلى أن الوعل في خصب، فلا يحتاج إلى الإسهال فيصاد‏.‏

وقال الحلواني‏:‏ الآس‏:‏ نقط من العسل تقع من النحل على الحجارة، فيستدلون به أحياناً‏.‏ وهذا البيت تقدم الكلام عليه أيضاً في الشاهد الخامس والستين بعد الثلثمائة‏.‏

وهذه القصيدة نسبها السكري إلى أبي ذؤيب الهذلي، وتقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين‏.‏ وعزاها الحلواني إلى مالك بن خالد الخناعي‏.‏

وخناعة، بضم المعجمة وتخفيف النون، هو خناعة بن سعد بن هذيل‏.‏ ونسبها غيرهما إلى أمية ابن أبي عائذ الهذلي كما تقدم هناك‏.‏ وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والخمسين بعد المائة‏.‏

وقد وقع المصراع الأول كما رواه الشارح المحقق في قصيدة لساعدة بن جؤية الهذلي ميمية هكذا‏:‏

تالله يبقى على الأيام ذو حيد *** أدفى صلود من الأوعال ذو خدم

قال السكري‏:‏ يريد‏:‏ والله لا يبقى‏.‏

وقوله‏:‏ ذو حيد يعني الوعل‏.‏ والحيد‏:‏ كعوب في القرن‏.‏ والأدفى‏:‏ الذي يذهب قرنه إلى نحو ذنبه‏.‏ والصلود‏:‏ الذي يقرع الجبل بظلفه‏.‏ والخدم‏:‏ خطوط في قوائمه‏.‏

وهذه قصيدة طويلة رثى بها جماعة، وغالب ألفاظها ومعانيها على النمط الأول‏.‏

وترجمة ساعدة بن جؤية تقدمت في الشاهد التاسع والستين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

تنفك تسمع ما حيي *** ت بهالك حتى تكونه

على أنه يجوز حذف لا من أخوات زال كما هنا، فإن التقدير‏:‏ لا تنفك تسمع‏.‏ وفي غيرها لا يجوز‏.‏

وهذا وإن كان في غير جواب القسم، خاص بزال وأخواتها‏.‏ وسمع في الشعر حذف لا في غيرها‏.‏

قال النمر بن تولب‏:‏

وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم *** تلاقونه حتى يؤوب المنخل

وخرجه ابن مالك على تقدير قسم مقدر، أي‏:‏ والله لا تلاقونه‏.‏

قال الدماميني‏:‏ والظاهر أن رأيه أولى، ليكون من قبيل ما حذف بقياس‏.‏

وقوله‏:‏ وقولي معطوف على أبدالي في بيت قبله، وهو قوله‏:‏

لعمري لقد أنكرت نفسي ورابني *** مع الشيب أبدالي التي أتبدل

وأبداله‏:‏ هي الشيب بعد الشباب، والضعف بعد القوة، والهزال بعد المسن، والسقم بعد الصحة‏.‏ والمقول هو لا تلاقونه‏.‏‏.‏‏.‏إلخ‏.‏ أي‏:‏ لا تلاقون البعير بعد إطلاقكم إياه حتى يؤوب المنخل‏.‏

وهذا القول في نفس الأمر مما يريب، كأنه يدل على ذهول عقل وخرف، فإن البعير إذا أطلق ليس في مسكه جهد عظيم‏.‏

والمنخل، بفتح الخاء المعجمة المشددة‏:‏ اسم شاعر كان النعمان بن المنذر اتهمه مع امرأته، فدفنه حياً، فلم يعرف خبره إلى الآن‏.‏ والعرب تضرب المثل به لغائب لا طمع في رجوعه‏.‏

وبعده‏:‏

فيضحى قريباً غير ذاهب غربة *** وأرسل أيماني فلا أتحلل

الغربة، بفتح الغين المعجمة والموحدة‏:‏ البعد، أي‏:‏ يصير البعير الذي أطلقوه قريباً منهم، ولا يذهب ذهاب بعد، ومع ذلك أنا أذهل، وأقول لهم ذلك القول، فأرسل أيماني، ولا أقيدها باستثناء، ولا أتحلل بقول إن شاء الله‏.‏

وهذا البيت من أبيات المغني، ولم يشرحه شراحه، ولهذا شرحته إجمالاً‏.‏

والنمر بن تولب صحابي عاش دهراً طويلاً‏.‏ وقد ترجمناه فيما مضى‏.‏ وأما قوله‏:‏

تنفك تسمع ما حييت‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

فقد تقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد السبعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

فلا وأبي دهماء زالت عزيزةً

على أن أصله‏:‏ فو أبي دهماء لا زالت عزيزة، ففصل بين لا النافية وبين زالت بالجملة القسمية، أعني قوله‏:‏ وأبي دهماء‏.‏ أقسم الشاعر بوالد هذه المرأة‏.‏ وليس فيه حذف لا خلافاً للفراء في زعمه ذلك، ولا ما خلافاً لابن عصفور في دعواه‏.‏

وقد تقدم الكلام على هذا في الشاهد الثالث والثلاثين بعد السبعمائة‏.‏ وهذا صدر، وعجزه‏:‏

على قومها ما فتل الزند قادح

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد العشرون بعد الثمانمائة

هذا ثنائي بما أوليت من حسن *** لا زلت عوض قرير العين محسودا

على أن عوض قد لا يستعمل في القسم كما هنا، وهو هنا ظرف بمعنى أبداً، متعلق بلا زلت‏.‏ وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد العشرين بعد الخمسمائة‏.‏

والبيت آخر قصيدة عدتها أربعة عشر بيتاً لربيعة بن مقروم الضبي، أربع منها في النسيب، وأربع في ذكر ناقته، وست في مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمي - بضم السين وشد الياء - ابن ربيعة بن ذبيان بن عامر بن ثعلبة بن ذؤيب بن السيد‏.‏

روى صاحب الأغاني عن أبي عمرو‏:‏ أن ربيعة بن مقروم أسر، واستيق ماله، فتخلصه مسعود المذكور، فمدحه ربيعة المذكور بهذه القصيدة‏.‏

وهذه سبعة أبيات منها يخاطب ناقته‏:‏

لما تشكت إلي الأين قلت له *** لا تستريحين ما لم ألق مسعودا

ما لم ألاق امرأ جزلاً مواهبه *** سهل الفناء رحيب الباع محمودا

وقد سمعت بقوم يحمدون فلم *** أسمع بمثلك لا حلماً ولا جودا

ولا عفافاً ولا صبراً لنائبة *** وما اخبر عنك الباطل السيدا

لا حلمك الحلم موجود عليه ول *** يلفى عطاؤك في الأقوام منكودا

وقد سبقت بغايات الجياد وقد *** أشبهت آباءك الصيد الصناديدا

هذا ثنائي بما أوليت ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏إلخ

وقوله‏:‏ لما تشكت‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، الأين‏:‏ التعب‏.‏ والسيد‏:‏ قبيل الممدوح من آل ضبة‏.‏ قاله صاحب الأغاني‏.‏

وقال ابن الأنباري في شرح المفصليات‏:‏ قال أبو جعفر‏:‏ السيد‏:‏ قوم ربيعة بن مقروم‏.‏ يقول‏:‏ لا أخبرهم عنك باطلاً، وإنما أمدحك بالحق‏.‏

وقوله‏:‏ لا حلمك الحلم‏.‏‏.‏إلخ، قال ابن الأنباري‏:‏ أي‏:‏ لم يطش حلمك فيوجد عليه‏.‏

والصيد‏:‏ جمع أصيد، وهو الذي لا يكاد يلتفت من التكبر‏.‏ والصناديد‏:‏ الكرام‏.‏

وقوله‏:‏ هذا ثنائي‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، قال ابن الأنباري‏:‏ أراد بعوض الدهر، وهو مبني على الضم‏.‏ يقول‏:‏ لا زلت محسوداً ذا نعمة تحسد عليها‏.‏ كقول الآخر‏:‏

محسدون على ما كان من نعم *** لا يذهب الله عنهم ما له حسدوا

ومثله قول الآخر‏:‏

إن يحسدوني فإني غير لائمهم *** قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

أي‏:‏ من كانت له نعمة حسيد عليها‏.‏ أي‏:‏ فلا زلت محسوداً‏.‏

وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أن العرب لا تقول‏:‏ حسد حاسدك، أي‏:‏ بالبناء للمفعول، لأنه إذا قال له ذلك دعا له بأن يكون له ما يحسد عليه، ولكنهم يقولون‏:‏ حسد لحاسدك‏.‏ انتهى‏.‏

وترجمة ربيعة بن مقروم تقدمت في الشاهد الرابع والأربعين بعد الستمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الحادي والعشرون بعد الثمانمائة

وقلن على الفردوس أول مشرب *** أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره

على أن جير قد تستعمل في غير القسم كما هنا، فإنها حرف تصديق بمعنى نعم بدون قسم‏.‏

وصنيع الجوهري، يوهم أنها مع القسم، لأنه قال‏:‏ قولهم جير لا آتيك، بكسر الراء‏:‏ يمين للعرب، ومعناها حقاً‏.‏ وأنشد هذا البيت بعينه‏.‏

والبيت أورده أبو محمد بن أحمد بن الخشاب مع بيت قبله، وهو‏:‏

تحمل من ذات التنانير أهله *** وقلص عن نهي الدفينة حاضره

وهما من قصيدة لمضرس الأسدي، أوردها الأصمعي في الأصمعيات، وهي قصائد اختارها لهارون الرشد، فاشتهرت بالأصمعيات‏.‏ وأورد منها ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل ستة عشر بيتاً‏.‏ وقوله‏:‏

تحمل من ذات التنانير أهلها

ذات التنانير غير موجود في المعجم للبكري، قال ابن المستوفي‏:‏ هو موضع‏.‏ وقال العيني‏:‏ هي عقبة بحذاء زبالة‏.‏

قال البكري‏:‏ زبالة بضم أوله بعده موحدة، قال محمد بن سهل‏:‏ هي بلد من أعمال المدينة سميت بزبالة بنت مسعود من العماليق، نزلت فيه فسمي بها‏.‏ أي‏:‏ ارتحل أهل هذا البلد منه‏.‏ وقلص، أي‏:‏ ارتفع‏.‏ والنهي، بفتح النون وكسرها وسكون الهاء فيهما، هو الغدير‏.‏

الدفينة، قال العيني‏:‏ هو موضع‏.‏ وقال ابن المستوفي؛ هو فعيلة من قولهم‏:‏ دفنت الشيء، فهو مدفون ودفين، وركية دفين، إذا اندفن بعضها‏.‏ وهذه الكلمة غير موجودة أيضاً في معجم البكري، وإنما فيه الدفين بلا هاء، قال‏:‏ وهو واد قريب من مكة‏.‏

والحاضر‏:‏ الحي العظيم، قاله ابن المستوفي‏.‏ وقال السيوطي‏:‏ هو المقيم‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ الحاضر‏:‏ الحي العظيم، وهو جمع كما يقال‏:‏ سامر للسمار‏.‏ وفلان حاضر بموضع كذا، أي‏:‏ مقيم‏.‏ ويقال‏:‏ على الماء حاضر‏.‏ وقوم حضار، إذا حضروا المياه، ومحاضر، وحضرة، مثل كافر وكفرة‏.‏

وقوله‏:‏ وقلن يعني النساء، يعني أنهن قلن‏:‏ إن ارتحلنا عن هذا الماء فإن أول مشرب نرده الفردوس‏.‏

قال ياقوت في معجم البلدان قال أبو عبيد السكوني‏:‏ الفردوس‏:‏ ماء لبني تميم عن يمين طريق الحاج من الكوفة‏.‏ وفردوس بلا لام‏:‏ روضة دون اليمامة‏.‏ وفردوس الإياد في بلاد بني يربوع‏.‏

والهاء في دعاثره يجوز أن تعود على لفظ الفردوس، ويجوز أن تعود على مشرب‏.‏ وأول مشرب‏:‏ مبتدأ، وعلى الفردوس‏:‏ خبره‏.‏ ثم اخبر بأجل جير، أي‏:‏ نعم إن كانت دعاثره مباحة غير ممنوعة‏.‏ وهذا من تسمية الشيء، بما يؤول إليه‏.‏ وجواب الشرط محذوف، أي‏:‏ إن كانت أبيحت دعاثره، فانزلن به‏.‏

وقال العيني‏:‏ على الفردوس‏:‏ حال، والخبر‏:‏ محذوف، أي‏:‏ قلن حال كونهن نازلات على الفردوس‏:‏ لنا أول مشرب‏.‏

قال ابن المستوفي‏:‏ وجدته يروى‏:‏ أن كانت بفتح الهمزة، وتكون في موضع المفعول به‏.‏ وكسر إن أولى، أي‏:‏ إن أول مشرب على الفردوس، كما ذكرتن ما لم تمنع دعاثره‏.‏

ودعاثره مع إن الشرطية غير مباحة، لأن الشرط قد يقع وقد لا يقع، ومع أن المصدرية مباحة‏.‏ والأول أولى بالمعنى‏.‏

وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل‏:‏ روي أن بفتح الهمزة وكسرها، والكسر هو رواية المفصل، ولكليهما وجه‏:‏ أما وجه الفتح فهو أن ذلك قد تحقق لأجل إباحة حياضه‏.‏ وأما وجه الكسر فهو أن ذلك متحقق إن كان قد حصل الإباحة لدعاثره‏.‏ فظهر أن الفتح في المعنى المراد أقوى، وإن لم يبعد مع الثانية‏.‏ انتهى‏.‏

وهو جمع دعثور بالضم‏.‏ في الصحاح‏:‏ والعثور‏:‏ الحوض المتثلم‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ وقياسه دعاثير، إلا أنه حذف الياء ضرورة‏.‏

والمشرب‏:‏ موضع الشرب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ مصدر ميمي، أي‏:‏ على الفردوس أول شرب نشربه‏.‏

وقوله‏:‏ إن كانت أبيحت دعاثره من باب التنازع، فإن رفعت دعاثره بأبيحت فاسم كان ضمير الدعاثر، أي‏:‏ هي‏.‏ وإن رفعته بكانت، ففي أبيحت ضميرها‏.‏ وجملة‏:‏ أبيحت على الوجهين خبر كانت‏.‏ وأجل‏:‏ حرف تصديق، وجير توكيد له‏.‏

وهذا البيت كذا في المفصل وغيره، ولم أره كذا في شعر مضرس على ما رواه الأصمعي، وإنما الرواية كذا‏:‏

وقلن ألا الفردوس أول محضر *** من الحي إن كانت أبيرت دعاثره

وهذا ليس فيه أجل جير‏.‏ والذي فيه الشاهد، إنما هو شعر طفيل الغنوي، وهو‏:‏

فلما بدا دمخ وأعرض دونه *** غوارب من رمل تلوح شواكله

وقلن ألا البردي أول مشرب *** أجل جير إن كانت رواءً أسافله

تحاثثن واستعجلن كل مواشك *** بلؤمته لم يعد أن شق بازله

ولهذا قال الصغاني عند الكلام على جير، وإنشاد البيتين الأخيرين من شعر طفيل المذكور شاهداً ما نصه‏:‏ وقد غير النحاة هذا الشاهد وجعلوه خنثى، وأنشدوا‏:‏

وقلن على الفردوس أول مشرب *** أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره

وهو مغير من شعر مضرس بن ربعي، وهو‏:‏

وقلن ألا الفردوس أول محضر *** من الحي إن كانت أبيرت دعاثره

وقوله‏:‏ فلما بدا دمخ هو بفتح الدال وسكون الميم بعدها خاء معجمة‏:‏ جبل من جبال ضرية، طوله في السماء ميل‏.‏

قال ابن السكيت في شرح ديوان طفيل‏:‏ غواربه‏:‏ أعاليه وشواكله‏:‏ نواحيه وجنوبه‏.‏

وقوله‏:‏ وقلن معطوف على بدا، بمعنى ظهر، والنون ضمير الظعائن، في بيت قبله، وهو‏:‏

تبصر خليلي هل ترى من ظعائن *** تحملن أمثال النعاج عقائله

النعاج‏:‏ جمع نعجة، شبه النساء بها‏.‏ وعقيلة كل شيء‏:‏ أفضله‏.‏

ظعائن أبرقن الخريف وشمنه *** وخفن الهمام أن تقاد قنابله

أبرقن‏:‏ دخلت أشهر الحرم، فخفن أن يغير عليهن، فتنكبن ناحيته، وتباعدن عنه‏.‏

والشيم‏:‏ النظر إلى موقع الغيث‏.‏ والقنابل‏:‏ جمع قنبلة كقنفذة، وهي طائفة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه‏:‏

على إثر حي لا يرى النجم طالع *** من الليل إلا وهو باد منازله

النجم‏:‏ الثريا‏.‏

يقول‏:‏ هذا الحي لا يرى النجم طالعاً بظلمة إلا رحل إلى مكان آخر يبتغي النجعة، فكأنه أبداً في قفر، لا يقيمون للمياه، هم أبداً سيارة‏.‏

شربن بعكاش الهبابيد شربةً *** وكان لها الأحفى خليطاً تزايله

فلما بدا دمخ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

عكاش الهبابيد‏:‏ ماء، وهو جمع هبود، جمعه بما حوله‏.‏ والأحفى‏:‏ بلد، أي‏:‏ زايلته، كما تزايل الخليط‏.‏

وقوله‏:‏ ألا البردي، ألا‏:‏ للتنبيه، فتدل على تحقق ما بعدها من جهة تركبها من همزة الاستفهام ولا؛ فإن الاستفهام إذا دخل على النفي، أفاد التحقيق‏.‏

قال ابن السكيت‏:‏ يعني بالبردي غديراً ينبت البردى‏.‏ وقال البكري في معجم ما استعجم‏:‏ هو غدير لبني كلاب‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ والبردي‏:‏ مبتدأ، وأول مشرب‏:‏ خبره، والجملة‏:‏ مقول قلن‏.‏

وقوله‏:‏ أجل جير‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، مقول لقول محذوف، أي‏:‏ فقيل لهن أجل جير إلخ‏.‏ ورواء، بالكسر والمد‏:‏ جمع ريان وريا، كعطاش جمع عطشان وعطشى‏.‏ وأسافل‏:‏ جمع أسفل، وهو المكان المنخفض‏.‏

يريد‏:‏ إن اجتمع الماء في أراضيه المنخفضة حتى صار غديراً، فالبردي أول مشرب، وإلا فلا‏.‏ فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله‏.‏

وقد استشهد ابن هشام في المغني بهذا المصراع فقط‏.‏ وفي بعض نسخه تمام البيت من شعر طفيل كما شرحنا‏.‏ ولله دره في صنيعه‏.‏

وقوله‏:‏ تحاثثن‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، هذا جواب لما، والنون ضمير الظعائن‏.‏ والحث‏:‏ الإسراع‏.‏ وحث الفرس على العدو‏:‏ صاح به، ووكزه برجل وضرب‏.‏ وتحاثثن‏:‏ تسارعن‏.‏ واستعجلت زيداً‏:‏ طلبت عجلته‏.‏ فهو متعد، وكل مفعوله‏.‏

ومواشك‏:‏ اسم فاعل واشك، أي‏:‏ سارع‏.‏ ومواشك صفة محذوف، أي‏:‏ كل بعير مواشك‏.‏ واللؤمة، بضم اللام وسكون الهمزة‏.‏

قال ابن السكيت‏:‏ هي متاع الإبل وما يلقى عليها من رحل ومفارش‏.‏ وجملة‏:‏ لم يعد‏.‏‏.‏إلخ، صفة لمواشك، وأن‏:‏ مصدرية، أي‏:‏ لم يتجاوز شق نابه‏.‏ يريد أنه كامل الفتوة‏.‏ وشق‏:‏ بفتح الشين المعجمة‏.‏ والبازل‏:‏ الناب‏.‏

قال ابن السكيت‏:‏ يقال شق نابه، وشقا نابه، ونجم نابه، وفطر نابه، وبزل نابه‏.‏ وأصله الاشتقاق، يقال‏:‏ تبزل ما بينهم‏.‏ انتهى‏.‏

قال صاحب العياب‏:‏ بزل البعير بزولاً‏:‏ فطر نابه، أي‏:‏ انشق، فهو بازل وبزول، ذكراً كان وأنثى‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ رجل بازل، إذا احتنك، تشبيهاً بالبعير النازل‏.‏ وفي حديث علي رضي الله عنه‏:‏

بازل عامين حديث سني

أي‏:‏ أنا في استكمال القوة كهذا البعير مع حداثة السن‏.‏ والبازل أيضاً‏:‏ السن التي طلعت‏.‏ انتهى‏.‏

وإنما قيد بقوله‏:‏ لم يعد أن شق‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، لأنه إذا تجاوزه يكون ضعيف القوى لهرمه‏.‏ وبزوله إنما يكون بدخوله في السنة التاسعة، وبعدها يشرع في الهرم‏.‏

وقد رأيت البيت الشاهد في قصيدة قافية، من شعر كعب بن زهير الصحابي، وهو‏:‏

وقلن ألا البردي أول مشرب *** أجل جير إن كانت سقته بوارقه

قال شارح ديوانه أبو العباس الأحول‏:‏ البردي‏:‏ موضع‏.‏ والبوارق‏:‏ جمع بارقة، يريد‏:‏ سحابة برقت وسكبت ماءها‏.‏ ويروى‏:‏ نعم جير‏.‏

وعدة أبياتها خمسة عشر بيتاً‏.‏ وكعب قد أخذه من طفيل الغنوي، لأن طفيلاً جاهلي متقدم زمانه‏.‏ وقد مرت تراجمهم‏.‏

أما مضرس ففي الشاهد الرابع والثلاثين بعد الثلمائة وأما طفيل ففي الشاهد التسعين بعد الستمائة، وهما جاهليان‏.‏ وأما كعب ففي الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والعشرون بعد الثمانمائة

وقائله أسيت فقلت جير *** أسي إنني من ذاك إنه

على أنه استدل من ذهب إلى اسمية جير بالتنوين اللاحق له كما هنا‏.‏

وقال الشارح المحقق‏:‏ هي حرف، والتنوين لضرورة الشعر‏.‏

وهذا أحد أجوبة ثلاثة عنه‏.‏

ثانيها‏:‏ أنه يحتمل أن يكون من تنوين الترنم تشبيهاً لآخر النصف بآخر البيت ذكره الشلوبين‏.‏ وتنوين الترنم غير مختص بالاسم‏.‏ والوصل بنية الوقف‏.‏ وهو وتنوين الغالي كهاء السكت، إنما يلحقان الكلمة وقفاً لا وصلاً‏.‏

ثالثها‏:‏ يحتمل أن يكون أراد توكيد جير بإن التي بمعنى نعم فحذف همزتها وخففت بحذف النون الثانية‏.‏ وهو بعيد‏.‏

وقد ذكر ابن مالك في شرح كافيته هذه الأوجه الثلاثة، وقال‏:‏ الصحيح أنها حرف بمعنى نعم، لأن كل موضع وقعت فيه جير، يصلح أن تقع فيه نعم، وليس كل موضع وقعت فيه يصلح أن يقع حقاً‏.‏ فإلحاقها بنعم أولى‏.‏

وقيل‏:‏ إن جير ظرف بمعنى أبداً، بني لقلة نمكنه‏.‏ وقيل اسم فعل‏.‏ فهذه أربعة أقوال، ذكرها ابن أبي الربيع في الملخص‏.‏

والقائل بأنها اسم فعل هو أبو علي، وقد نقله ياقوت الحموي في معجم الأدباء، في ترجمة أبي علي، في ضمن حكاية رأينا إيرادها هنا مناسباً، قال ياقوت‏:‏ وقال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد بن سهلويه في كتابه الذي سماه أجناس الجوهر‏:‏ كنت بمدينة السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي، وكان السلطان رسم له أن ينتصب لي كل أسبوع يومين لتصحيح كتاب التذكرة، لخزانة كافي الكفاة‏.‏ فكنا إذا قرأنا أوراقاً منه تجارينا في فنون الآداب، واجتنينا من فوائد ثمار الألباب، ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه، والتقطنا الدر المنثور من فيه؛ فأجرى يوماً بعض الحاضرين ذكر الأصمعي، وأسرف في الثناء عليه، وفضله على أعيان العلماء في أيامه‏.‏ فرأيته كالمنكر مما كان يورده‏.‏

وكان مما ذكر في محاسنه أن قال‏:‏ من ذا الذي يجسر أن يخطئ الفحول من الشعراء غيره‏؟‏ فقال أبو علي‏:‏ وما الذي رد عليهم‏؟‏ فقال الرجل‏:‏ قد أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها، وفضل معرفته بأغراضها ومراميها، وأنه سلك نهج الأوائل في صوف المفاوز إذا لعب السراب فيها، ورقص الآل في نواحيها‏.‏ ونعت الحرباء، وقد شبه على جذله، والظليم، وكيف ينفر من ظله، وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام، حتى كأنهم صرعتهم كؤوس المدام، فطبق مفصل الإصابة في كل باب، وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة، وجار القروم البزل من أصحاب البلاغة‏.‏ فقال له الشيخ أبو علي‏:‏ وما الذي أنكر على ذي الرمة‏؟‏ فقال‏:‏ قوله‏:‏

وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم

لأنه كان يجب أن ينونه‏.‏ فقال‏:‏ أما هذا فالأصمعي مخطئ فيه‏.‏ وذو الرمة مصيب‏.‏

والعجب أن يعقوب بن السكيت قد وقع عليه هذا السهو في بعض ما أنشده‏.‏ فقلت‏:‏ إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطأ تفضل به‏.‏ فأملى علينا‏:‏ أنشد ابن السكيت‏:‏

وقائلة أسيت فقلت جير *** أسي إنني من ذاك إنه

أصابهم الحما وهم عواف *** وكن عليهم تعساً لهنه

فجئت قبورهم بدءاً ولم *** فناديت القبور فلم يجبنه

وكيف تجيب أصداء وهام *** وأبدان بدرن وما نخرنه

قال يعقوب‏:‏ قوله‏:‏ جير، أي‏:‏ حقاً، وهي مخفوضة غير منونة، فاحتاج إلى التنوين‏.‏ قال أبو علي‏:‏ هذا سهو منه، لأن هذا يجري مجرى الأصوات، وباب الأصوات كلها، والمبنيات بأسرها لا ينون إلا ما خص منها بعلة، الفرقان فيها من نكرتها ومعرفتها التنوين، فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين، فإذا نكرته نونته‏.‏

من ذلك أنك تقول في الأمر‏:‏ صه ومه، تريد السكوت يا فتى، فإذا نكرت قلت‏:‏ صه ومه تريد سكوتاً‏.‏ وكذلك قول الغراب‏:‏ غاق، أي‏:‏ الصوت المعروف من صوته، وقول الغراب غاق، أي‏:‏ صوتاً‏.‏ وكذلك إيه يا رجل، تريد الحديث‏.‏ وإيه تريد حديثاً‏.‏

وزعم الأصمعي أن ذا الرمة أخطأ في قوله‏:‏

وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم

وكان يجب أن ينونه‏.‏ وهذا من أوابد الأصمعي التي يقدم عليها من غير علم‏.‏ فقوله‏:‏ جير بغير تنوين، في موضع قوله‏:‏ فقلت الحق‏.‏ وتجعله نكرة في موضع آخر فتنونه، فيكون معناه‏:‏ قلت حقاً‏.‏ ولا مدخل للضرورة في ذلك، إنما التنوين للمعنى المذكور، وبالله التوفيق‏.‏ وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير‏.‏

قال يعقوب‏:‏ قوله أصابهم الحما، يريد‏:‏ الحمام‏.‏ وقوله‏:‏ يدرن، أي‏:‏ طعن في بوادرهم بالموت‏.‏ والبادرة‏:‏ النحر‏.‏

وقوله‏:‏ فجئت قبورهم بدءاً، أي‏:‏ سيداً‏.‏ وبدء القوم‏:‏ سيدهم‏.‏ وبدء الجزور‏:‏ خير أنصبائها‏.‏

وقوله‏:‏ ولما، أي‏:‏ ولم أكن سيداً حين ماتوا، فإني سدت بعدهم‏.‏

هذا ما أورده ياقوت بحروفه‏.‏ وأورد ابن فارس في كتاب فقه اللغة هذه الأبيات عن المفضل، وزاد في أولهن بيتاً، وهو‏:‏

ألا يا طال بالغربات ليلي *** وما يلقي بنو أسد بهنه

ويا حرف نداء، والمنادى محذوف، أي‏:‏ يا قوم ونحوه‏.‏ والغربات، بضم الغين المعجمة والراء المهملة بعدها موحدة‏:‏ جمع غربة بضمتين، وهي الامرأة الغريبة‏.‏ وبدون هاء‏:‏ الرجل الغريب‏.‏ يريد التزوج بالغربيات‏.‏

وليلي فاعل طال‏.‏ وقال ابن الملا في شرح المغني‏:‏ الغربات‏:‏ موضع‏.‏ ويرده الضمير في بهنه‏.‏ والباء سببية، والهاء للسكت‏.‏

وقوله‏:‏ وقائلة الواو‏:‏ واو رب، وقائلة‏:‏ صفة مجرور رب المحذوف، أي‏:‏ رب امرأة قائلة‏.‏ وأسيت‏:‏ بالخطاب جواب رب‏.‏ والأسى‏:‏ الحزن‏.‏ يقال‏:‏ أسي يأسى أسىً، كرضي يرضى رضاً، إذا حزن‏.‏

وأسي‏:‏ حزين وزناً ومعنى، وهو خبر مبتدأ محذوف، والتقدير‏:‏ أنا أسي، وخبر إنني محذوف مدلول عليه بما قبله، ومن متعلقة بالمحذوف تعليلية، أي‏:‏ إنني أسي من أجل ما لقي بنو أسد بسبب التزوج بالغربيات من المصائب‏.‏

فاسم الإشارة راجع إلى ما لقي بنو أسد بسببهن‏.‏ وإنه بمعنى نعم، والهاء للسكت‏.‏

وقال ابن الملا‏:‏ الإشارة للحزن، أي‏:‏ إنني مخلوق من الحزن، قصداً للمبالغة‏.‏ وإن الثانية تأكيد للأولى‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقوله‏:‏ أصابهم الحما، بكسر الحاء أصله‏:‏ الحمام، وهو الموت، حذف منه الميم للضرورة، وهي ما وقع في الشعر، وإن كان عنه مندوحة‏.‏ وهذا هو الصحيح في تفسير الضرورة، فلا يرد قول ابن الملا‏:‏ ولك أن تقول‏:‏ أين الضرورة، وهو متمكن من أن يقول‏:‏

أصابهم الحمام فهم عواف

بسكون الميم من غير وصل على الأصل‏.‏

وعواف‏:‏ جمع عاف شذوذاً، وجمع عافية بمعنى جماعة عافية، من عفا القوم بمعنى كثروا‏.‏ وفي التنزيل‏:‏ حتى عفوا‏.‏

قال صاحب المصباح‏:‏ أي كثروا‏.‏ وعفا النبت والشعر وغيره يعفو فهو عاف‏:‏ كثر وطال‏.‏

وفي حديث مصعب بن عمير‏:‏ إنه غلام عاف، أي‏:‏ وافي اللحم كثيره‏.‏ وجملة‏:‏ وهم عواف‏:‏ حالية‏.‏

ولم يتنبه ابن الملا لهذا المعنى، وظن انه من عفا المنزل بمعنى درس، ففسره بالرمم البالية، وشطب الواو بقلمه، ونزل فاء على هم، وجعلها فهم عواف‏.‏

وهذا غير جائز في تفسير الرواية على حسب المراد‏!‏ وضمير جمع المذكر في جميع المواضع لبني أسد، والنون في كن ضمير النساء الغربيات‏.‏

وقوله‏:‏ تعساً لهنه دعاء عليهن، ومعناه‏:‏ أتعسهن الله‏.‏ قال صاحب المصباح‏:‏ التعس‏:‏ مصدر تعس تعساً، من باب نفع‏:‏ أكب على وجهه، فهو تاعس‏.‏ وتعس تعساً من باب تعب لغة، فهو تعس مثل تعب‏.‏

وتتعدى هذه بالحركة وبالهمزة، فيقال‏:‏ تعسه الله بالفتح، وأتعسه‏.‏ وفي الدعاء‏:‏ تعساً له، وتعس وانتكس‏.‏

فالتعس‏:‏ أن يخر لوجهه‏.‏ والنكس‏:‏ أن لا يستقل بعد سقطته حتى يسقط ثانية، وهي أشد من الأولى‏.‏ واللام في لهنه مبنية للمفعول، مثل سقياً لزيد، والهاء للسكت‏.‏

وروي أيضاً‏:‏

وكن عليهم نحساً لعنه

فنحساً خبر كن، وهو ضد السعد‏.‏ ولعنه بالبناء للمجهول، من اللعن، والهاء للسكت، والجملة دعاء عليهن‏.‏

وقوله‏:‏ فجئت قبورهم بدءاً‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، البدء، بفتح الموحدة وسكون الدال بعدها همزة‏:‏ السيد، والشاب العاقل‏.‏ ومجزوم لما محذوف‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ الخامس، أي‏:‏ من الأمور التي تفارق لما فيها لم‏:‏ أن منفي لما جائز الحذف لدليل، كقوله‏:‏

فجئت قبورهم بدءاً ولما

أي‏:‏ ولما أكن بدءاً قبل ذلك، أي‏:‏ سيداً، ولا يجوز وصلت إلى بغداد ولم؛ تريد‏:‏ ولم أدخلها‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ وكيف تجيب أصداء‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، هذا استبعاد منه لإجابة القبور له‏.‏

وصحف ابن الملا هاتين الكلمتين فكتب بخطه‏:‏ وكنت بدل كيف وبحيث بدل تجيب‏.‏ وينبغي أن يسأل منه ما هذه الحيثية‏؟‏ والأصداء‏:‏ جمع صدىً بالقصر، وهو ذكر البوم يسكن القبور‏.‏ وكذلك الهام، وهو جمع هامة، وهو من طير الليل‏.‏

وقوله‏:‏ وأبدان بدرن روي أيضاً‏:‏ وأجسام بدرن بضم الباء وكسر الدال، أي‏:‏ طعن في بوادرهم بالموت‏.‏ والبادرة‏:‏ النحر‏.‏

وقوله‏:‏ وما نخرنه من نخر العظم نخراً، من باب تعب، إذا بلي وتفتت‏.‏ والنون‏:‏ ضمير الأبدان والأجسام، على اختلاف الرواية‏.‏ والهاء للسكت‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

فأقسم لو شيء أتانا رسوله

تقدم شرحه قريباً‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والعشرون بعد الثمانمائة

ورث السيادة كابراً عن كابر

على أن تقديره‏:‏ كابراً متجاوزاً في الفضل كابراً عن كابر آخر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أي بعد كابر‏.‏ والأولى إبقاء الحروف على معناها ما أمكن‏.‏ وذكر متجاوزاً للإشارة إلى أن عن متعلقة بمحذوف، لا بكابر لما يأتي‏.‏ وأشار بذكر الفضل إلى أن تجاوز أحدهما عن الآخر إنما هو بالفضل، فأحدهما أفضل من الآخر، وهم متشاركون في الفضل‏.‏ ولا يخفى أنه ليس المعنى على التفضيل، وإنما المعنى تساويهم في الفضائل، وتناسقهم فيها واحداً بعد واحد، كقول البحتري‏:‏

شرف تتابع كابراً عن كابر *** كالرمح أنبوباً على أنبوب

ويدل لما قلنا مجيء بعد بدل عن‏.‏ أنشد أبو حنيفة في كتاب النبات لرجل من أبناء ملوك اليمن‏:‏

وأماتنا أكرم بهن عجائز *** ورثن العلا عن كابر بعد كابر

وأنشد أبو تمام في الحماسة‏:‏

بقية قدر من قدور تورثت *** لآل الجلاح كابراً بعد كابر

وكذا قول حسان بن ثابت‏:‏

ورثت الفعال وبذل التل *** د والمجد عن كابر كابر

والمعنى عن كابر بعد كابر، كقولهم‏:‏ تعلمت الحساب باباً باباً، ومعناه‏:‏ باباً بعد باب‏.‏ وإلى ما قلنا ذهب ابن جني في إعراب الحماسة قال عند بيت الحماسة‏:‏ هذا البيت يستفاد منه أن عن في قول الأعشى‏:‏

ساد وألفى قومه سادةً *** وكابراً سادوك عن كابر

ليست متعلقة بنفس كابر على حد قولك‏:‏ كبرت عنه، أي‏:‏ ارتفعت عنه، وإنما هي‏:‏ بمعنى كابر بعد كابر‏.‏

ألا تراه قد ظهر في بيت النابغة كابراً بعد كابر‏.‏ فعن في قول الأعشى كعن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لتركبن طبقاً عن طبق ، أي‏:‏ بعد طبق‏.‏ وهو كقول الكافة في مخاطباتهم‏:‏ فعلت ذلك عوداً عن بدء، أي‏:‏ بعد بدء‏.‏ ولو كانت عن متعلقة بنفس كابر، لكان في ذلك تشنع على القوم لا تمدح لهم، وذلك إذا كبر بعضهم عن بعض، فكان ذلك غضاً من المفضول‏.‏ وإنما ينبغي أن يقال‏:‏ إنهم متتابعو الشرف، متشابهو الفضل‏.‏ وهذا كقول الآخر‏:‏

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري

انتهى كلامه‏.‏

ولا فرق بين أن تعلق عن بكابر، وبمتجاوز، باقية على أصلها، فإنه يلزم التفضيل في كل منهما‏.‏

وكابر اختلف في معناه على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنه بمعنى كبير، قاله صاحب الصحاح وابن الشجري وغيرهما، وهو المشهور‏.‏

ثانيهما‏:‏ أنه اسم جمع‏.‏ قال ابن جني، ومثله للمرزوقي‏:‏ قال أبو علي‏:‏ كابر هنا ليس باسم الفاعل كقائم وقاعد، لكنه من أسماء الجمع، بمنزلة الجامل والباقر والسامر، فكأنه قال‏:‏ وكبراء سادوك بعد كبراء‏.‏ فعن متعلقة بمحذوف هو في الأصل صفة لكبراء، مثلهما في قوله‏:‏

لآل الجلاح كابراً بعد كابر

أي‏:‏ لآل الجلاح متتابعين في الفضل، متشابهين في السودد‏.‏ انتهى‏.‏

ثالثها‏:‏ أنه للمغالبة‏.‏ قال الزمخشري في الأساس‏:‏ إنه من كابرته فكبرته، أي‏:‏ غلبته في الكبر، فأنا كابر‏.‏ انتهى‏.‏

وكابر منصوب بنزع الخافض، والتقدير‏:‏ من كابر، لأن ورث يتعدى إلى مفعول واحد، وهو الموروث منه، وتأتي بالموروث بعده بدل اشتمال، تقول‏:‏ ورثت أبي ماله، ومالاً منه‏.‏ فإن عديته إلى الموروث، جئت بالموروث منه مجروراً بمن وعن، تقول‏:‏ ورثت المال من أبي، ومالاً عن أبي‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ ورثت أبي، وورثت الشيء من أبي‏.‏ ومثال عن ما أنشده أبو حنيفة‏:‏

ورثن العلا عن كابر بعد كابر

وقول حسان المتقدم‏.‏ وكذلك من محذوفة من قوله‏:‏

لآل الجلاح كابراً بعد كابر

وكذا تقدر من في قوله‏:‏

شرف تتابع كابراً عن كابر

وتتابع غير متعد، والمعنى على من‏.‏ وكذا الحال في بيت الأعشى‏.‏

ومما قررنا، يضمحل ما تكلفه جماعة من أنه منصوب على الحال‏.‏ ثم اختلفوا فمنهم من قال‏:‏ كابراً عن كابر‏:‏ جملة حالية نصب صدرها، كما في قولهم‏:‏ كلمته فاه إلى في، وأورد قول الشاعر‏:‏

فتذاكروا آخراً عن أول *** وتوارثوها كابراً عن كابر

ومنهم من قال‏:‏ كابراً مفرد وقع حالاً، أي‏:‏ ورثوه كابرين، وصاغرين، وأفرد لكونه بمعنى جمعاً كابراً‏.‏

قال السيد في حاشية الكشاف‏:‏ وفيه أن هذه العبارة كما لا تختلف جمعاً وإفراداً، لا تختلف تأنيثاً وتثنية‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى إن الحالية لا تتمشى في كل موضع، وليس في هذه الأبيات ما هو حال‏.‏ ومنشأ هذا التكلف ظن أن كابراً الأول‏:‏ هو الوارث، والثاني‏:‏ هو الموروث منه‏.‏ وليس كذلك، وإنما الأول هو الموروث منه‏.‏

وهذا المصراع من شعر كعب بن زهير، إلا أنه بضمير جمع‏.‏ والشارح المحقق أورده لا على أنه شعر، ولذا قال‏:‏ وكذا قولهم‏.‏

وقد ورد في شعر الفرزدق ما مثل به، إلا أن فيه المكارم بدل السيادة، وهو‏:‏

كم من أب لي يا جرير كأنه *** قمر المجرة وسراج نهار

ورث المكارم كابراً عن كابر *** ضخم الدسيعة كل يوم فخار

وأما شعر كعب بن زهير فهو من قصيدة مدح بها الأنصار رضي الله عنهم، وهي ثلاثون بيتاً، مدحهم في ثمانية عشر بيتاً منها‏.‏ وسببها أن كعباً لما مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة بانت سعاد أطرى فيها بمدح المهاجرين رضي الله عنهم، وعرض في آخرها بذكر الأنصار بأنهم سود صغار القامات، لا يثبتون في الحروب، فغضب الأنصار، فمدحهم بها‏.‏

قال ابن هشام في السيرة‏:‏ ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعد إنشاد القصيدة‏:‏ لولا ذكرت الأنصار بخير، فإن الأنصار لذلك أهل ‏.‏

وهذه بيات من أولها على رواية شارح ديوانه‏:‏

من سره كرم الحياة فلا يزل *** في مقنب من صالحي الأنصار

ورثوا السيادة كابراً عن كابر *** إن الخيار هم بنو الأخيار

المكرهين السمهري بأذرع *** كسوافل الهندي غير قصار

والناظرين بأعين محمرة *** كالجمر غير كليلة الإبصار

والذائدين الناس عن أديانهم *** بالمشرفي وبالقنا الخطار

والباذلين نفوسهم لنبيهم *** يوم الهياج وقبة الجبار

يتطهرون كأنه نسك لهم *** بدماء من علقوا من الكفار

والمقنب، بكسر الميم‏:‏ ما بين الثلاثين إلى الأربعين‏.‏

قال شارح ديوانه‏:‏ السيادة‏:‏ مصدر ساد يسود سوداً وسيادة‏.‏ والمشهور في مصدره السيادة‏.‏ والسود مصدر غريب‏.‏ وأما السودد بدالين فقد قال صاحب المصباح‏:‏ ساد يسود سيادة، والاسم السودد، وهو المجد والشرف‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ورثوا المجد كابراً عن كابر، أي‏:‏ كبيراً شريفاً عن كبير شريف‏.‏ وقال المرزوقي في شرح الحماسة‏:‏ لم يوجد كابر بمعنى كبير إلا في هذا المكان‏.‏ وقال‏:‏ أبو علي يقول‏:‏ كابر ليس باسم فاعل، إنما هو صيغة للجمع كالباقر‏.‏ والمراد كبراء بعد كبراء‏.‏

والسمهري‏:‏ الرمح، قال شارح ديوانه‏:‏ الهياج‏:‏ الحرب، وأصله الحركة في الشر‏.‏

وقوله‏:‏ وقبة الجبار أراد بيت الله الحرام‏.‏ وقال أبو عمرو‏:‏ الواو للقسم‏.‏ والمشهور في هذا المصراع‏:‏

الباذلين نفوسهم لنبيهم *** يوم اللقا بتعانق وكرار

وهي رواية ابن هشام‏.‏ وترجمة كعب بن زهير تقدمت في الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب *** عني ولا أنت دياني فتخزوني

على أن أفضلت ضمن معنى تجاوزت في الفضل، فلهذا تعدى بعن، ولولا التضمين، لقال‏:‏ أفضلت علي، من قولهم‏:‏ أفضلت على الرجل، إذا أوليته فضلاً‏.‏ وأفضل هذه تتعدى بعلى، لأنها بمعنى الإنعام، وأنه من قولهم‏:‏ أعطى وأفضل، إذا زاد على الواجب‏.‏ وأفضل هذه أيضاً تتعدى بعلى، يقال‏:‏ أفضل على كذا، أي‏:‏ زاد عليه فضلة‏.‏

ومراده من ذكر التضمين أن عن ليست بمعنى على، خلافاً لابن السكيت ولابن قتيبة ومن تبعهما، فإنهم قالوا‏:‏ عن نائبة عن على‏.‏

والأولى أن يكون أفضل من قولهم‏:‏ أفضل الرجل، إذا صار ذا فضل في نفسه، فيكون معناه‏:‏ ليس لك فضل تنفرد به عني، وتحوزه دوني‏.‏ فيكون لتضمنه معنى الانفراد تعدى بعن‏.‏ فتأمل‏.‏

والديان‏:‏ القيم بالأمر المجازي به‏.‏ وتخزوني‏:‏ تسوسني سياسة‏.‏

يقول‏:‏ لله ابن عمك الذي ساواك في الحسب، وماثلك في الشرف، فليس لك فضل تنفرد به عنه، ولا أنت مالك أمره، فتتصرف به على حكمك‏.‏ ومراده بابن العم نفسه، فلذلك رد الإخبار بلفظ المتكلم‏.‏

وقد تقدم شرحه بما لا مزيد عليه في الشاهد الثالث والعشرين بعد الخمسمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والعشرون بعد الثمانمائة

تصد وتبدي عن أسيل وتتقي *** بناظرة من وحش وجرة مطفل

على أن تبدي ضمن معنى تكشف، في تعديته إلى المفعول الثاني ب عن، وأما المفعول الأول، فهو محذوف، كما أشار إليه الشارح المحقق‏.‏

وإنما احتاج إلى التضمين، لأن تبدي فعل متعد بنفسه إلى مفعول واحد، تقول‏:‏ أبداه إبداء، أي‏:‏ أظهره إظهاراً‏.‏ فلولا التضمين لكانت عن إما زائدة بالنسبة إلى تبدي، وإما بمعنى الباء بالنسبة إلى تصد، فإنه يقال‏:‏ صد عنه بكذا، وكلاهما خلاف الأصل‏.‏

وتكشف أيضاً متعد بنفسه إلى مفعول واحد، تقول‏:‏ كشفته، أي‏:‏ أظهرته وأوضحته‏.‏ وحقيقة الكشف رفع الساتر والحجاب‏.‏ ويتعدى إلى المفعول الثاني بعن‏.‏

وهذا البيت من باب التنازع‏.‏ وأعمل ابن قتيبة الأول على مذهبه فعلق عن أسيل بتصد، وجعل عن نائبة عن الباء، لأن صد، إنما يتعدى بالباء، تقول‏:‏ صد بوجهه عني‏.‏

ويرد عليه أنه يلزمه أن يقال‏:‏ تصد وتبدي عنه عن أسيل، لأنه إذا أعمل الأول في المفعول أضمر للثاني، على المختار باتفاق من البصريين والكوفيين‏.‏ فحذف معمول الثاني خلاف المختار‏.‏ فعلى قوله فيه إنابة حرف مكان حرف وحذف على غير المختار‏.‏

والشارح المحقق لما رأى ورود هذين الأمرين عدل إلى إعمال الثاني على مذهب البصريين بتضمينه معنى ما ذكر، ففيه مخالفة للأصل من وجه واحد، وهو أسهل من مخالفته من وجهين‏.‏

والجيد أن يكون أبدى هنا لازماً يتعدى بعن، كما قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب إن أبدى يعدى بعن، قال‏:‏ لأنك تقول‏:‏ أبديت عن الشيء، كما قال سحيم يصف ثوراً يحفر في أصل شجرة كناساً له‏:‏

يثير ويبدي عن عروق كأنه *** أعنة خراز جديداً وباليا

وحينئذ لا تضمين، فيكون عن على بابه‏.‏ ويؤيده ما في أفعال ابن القطاع، قال‏:‏ بدا الشيء بدواً، وأبدى‏:‏ ظهر‏.‏ انتهى‏.‏ فيكون أبدى جاء متعدياً ولازماً‏.‏

وهذا البيت من معلقة امرئ القيس، وبعده‏:‏

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش *** إذا هي نضته ولا بمعطل

وفرع يزين المتن أسود فاحم *** أثيث كقنو النخلة المتعثكل

غدائره مستشزرات إلى العل *** يضل العقاص في مثنى ومرسل

وكشح لطيف كالجديل مخصر *** وساق كأنبوب السقي المذلل

قوله‏:‏ تصد وتبدي‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، الصد‏:‏ الإعراض‏.‏ والأسيل‏:‏ الخد المتطامن المستوي‏.‏ والأسالة‏:‏ امتداد وطول في الخد‏.‏ وقد أسل أسالة، فهو أسيل‏.‏

وروي أيضاً‏:‏ عن شتيت‏.‏ قال شراح المعلقات‏:‏ الشتيت‏:‏ المتفرق، وتقديره عن ثغر شتيت‏.‏

ولم يفصحوا عن المراد، والمعنى عن ثغر مفلج، وهو أن تكون الأسنان متباعدة غير متلاصقة‏.‏

يريد‏:‏ تظهر أسنانها بالتبسم بعد أن تعرض عنا استحياء‏.‏ والاتقاء‏:‏ الحجز بين الشيئين، يقال‏:‏ اتقيته بترس، أي‏:‏ صيرت الترس حاجزاً بيني وبينه‏.‏

قال ابن السيد‏:‏ والناظرة فيها قولان‏:‏ قيل‏:‏ أراد العين، وقيل‏:‏ أراد بقرة ناظرة، وفيه مضاف محذوف، أي‏:‏ بعين بقرة ناظرة، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ثم حذفه، وأقام صفته مقامه‏.‏

ويجوز أن يريد‏:‏ وتتقي من نفسها ببقرة ناظرة، فيكون كقولك‏:‏ لقيت يزيد الأسد، أي‏:‏ لقيته فكأني لقيت الأسد، ففي هذا الوجه حذف موصوف لا غير، وفي الأول حذف موصوف ومضاف‏.‏

والوحش واحده وحشي، مثل‏:‏ زنج وزنجي‏.‏ وجرة، بفتح الواو وسكون الجيم، قال أبو عبيد في معجم ما استعجم‏:‏ قال الأصمعي‏:‏ هو موضع بين مكة والبصرة على ثلاث مراحل من مكة، طولها أربعون ميلاً ليس فيها منزل، فهي مأوى الوحوش‏.‏

وقال الطوسي‏:‏ وجرة في طرف السي، وهي فلاة بين مران، وذات عرق، وهي ثلاثون ميلاً يجتمع فيها الوحش، لا ماء فيها‏.‏

وقال عمارة بن عقيل‏:‏ السي‏:‏ ما بين ذات عرق إلى وجرة، على ثلاث مراحل من مكة إلى البصرة‏.‏

وزعم عمارة أن وجرة ماء لبني سليم على ثلاث مراحل من مكة‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ وجرة من سائر، وسائر قريب من عين ملل‏.‏ وقال غيره‏:‏ وجرة بإزاء غمرة، عليها طريق حجاج الكوفة والبصرة‏.‏ انتهى باختصار‏.‏

وقال ابن السيد‏:‏ وجرة‏:‏ فلاة تألفها الوحوش، وخصها بالذكر لأنها قليلة الماء، فوحشها يجتزئ بالنبات الأخضر عن شرب الماء، فتضمر بطونها، ويشتد عدوها‏.‏

ومطفل‏:‏ ذات طفل، وخص المطفل لأنها تحنو على ولدها، وتخشى عليه القناص والسباع، فتكثر التلفت والتشوف؛ فذلك أحسن لها في المنظر، وأصح في تشبيه المرأة بها، لأنه أراد أنها حذرة من الرقباء، فهي متشوفة كتشوف هذه البقرة‏.‏

ومن جعل الناظرة البقرة، كان مطفل صفة لها، ومن جعل الناظرة العين جعل مطفلاً بدلاً من ناظرة على تقدير مضاف، أي‏:‏ وتتقي بناظرة ناظرة مطفل‏.‏ وهو بدل كل من كل‏.‏

وذهب ابن كيسان إلى أنه أراد بناظرة مطفل بالإضافة، فلما فصل بين المضاف والمضاف إليه رد التنوين الذي كان سقط للإضافة، كقوله‏:‏

رحم الله أعظماً دفنوه *** بسجستان طلحة الطلحات

وهذا لقول خطأ لا يلتفت إليه، لأن العرب إذا فصلت بينهما لم تنون‏.‏

وقوله‏:‏ من وحش وجرة صفة لناظرة‏.‏ فإن كانت بمعنى البقرة ففيه حذف موصوف، أي‏:‏ ببقرة ناظرة كائنة من وحش وجرة‏.‏

وإن كانت بمعنى العين ففيه مضاف محذوف، أي‏:‏ من نواظر وحش وجرة‏.‏ ومطفل جاء على النسب‏.‏

وقال الفراء‏:‏ لم يقل مطفلة لأن هذا لا يكون إلا للنساء، فهو مثل حائض‏.‏ والدليل على صحة قول سيبويه أنه يقال‏:‏ مطفلة، إذا أردت أن تأتي به على أطفلت فهي مطفلة‏.‏

ولو كان ما يقع للمؤنث لا يشركه فيه المذكر لا يحتاج فيه إلى الهاء ما جاز مطفلة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏تذهل كل مرضعة عما أرضعت ‏.‏

وقال الإمام الباقلاني في إعجاز القرآن عند معايب هذه المعلقة‏:‏ قوله‏:‏ تصد وتبدي عن أسيل، إنما يريد خداً ليس بكز‏.‏ وهذا متفاوت لأن الكشف عن الوجه مع الوصل، دون الصد‏.‏

وقوله‏:‏ تتقي بناظرة لفظة مليحة، يقال‏:‏ اتقاه بحقه، أي‏:‏ جعله بينه وبينه‏.‏ وقد أوحشها بقوله‏:‏ من وحش وجرة وكان سبيله أن يضيف إلى عيون الظباء والمها، دون إطلاق الوحش، ففيه ما يستنكر عيونه‏.‏ انتهى‏.‏

وحاصل المعنى‏:‏ أنها تعرض عنا، فتظهر في إعراضها خدأ أسيلاً، وتستقبلنا بعين مثل عيون ظباء وجرة ومهاها، التي لها أطفال‏.‏ وخصهن لنظرهن إلى أولادهن بالعطف والشفقة‏.‏ وهن أحسن عيوناً في تلك الحال منهن في سائر الأحوال‏.‏

وقوله‏:‏ وجيد كجيد الريم معطوف على أسيل‏.‏ والجيد‏:‏ العنق‏.‏ والريم‏:‏ الظبي الأبيض‏.‏ ونضته‏:‏ رفعته ونصبته‏.‏

وقال العسكري في التصحيف‏:‏ رواه الأصمعي‏:‏ نصته، بالصاد المهملة مشددة، أي‏:‏ رفعته، وبه سمي المنصة‏.‏ ورواية غيره‏:‏ نضته بالضاد المعجمة مخففة، ومعناه أبرزته وكشفته‏.‏

وفي بيته الآخر‏:‏

فجئت وقد نضت لنوم ثيابه *** لدى الستر إلا لبسة المتفضل

نضت‏:‏ خلعت ونزعت‏.‏ ونضا سيفه، إذا سله من غمده‏.‏ ونضا خضابه ينضو‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ ولا بمعطل، أي‏:‏ من الحلي‏.‏ يقال‏:‏ جيد عطل بضمتين ومعطل، أي‏:‏ خال من الحلي‏.‏ وإذا ظرف لفاحش، أي‏:‏ ليس بكريه المنظر‏.‏

قال الباقلاني‏:‏ ليس بفاحش، في مدح الأعناق، كلام فاحش موضوع، وإذا نظرت في أشعار العرب، رأيت في وصف الأعناق، ما يشبه السحر‏.‏

يقول‏:‏ وتبدي عن عنق كعنق الظبي غير متجاوز قدره المحمود، إذا رفعت عنقها، وهو غير معطل عن الحلي‏.‏ فشبه عنقها بعنق الظبية في حال رفعها عنقها‏.‏ وذكر أنه لا يشبه عنق الظبية في التعطل عن الحلي‏.‏

وقوله‏:‏ وفرع يزين المتن‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، هذا معطوف أيضاً على أسيل‏.‏ والفرع‏:‏ الشعر التام‏.‏ والمتن والمتنة‏:‏ ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم‏.‏ والفاحم‏:‏ الشديد السواد، كأنه لون الفحم‏.‏

والأثيث‏:‏ الكثير النبت‏.‏ والقنو، بكسر القاف وضمها، وهو العذق بالكسر‏.‏ والمتعثكل‏:‏ الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته، من العثكال والعثكول، وهو الشمراخ‏.‏ وقيل المتعثكل‏:‏ المتدلي‏.‏

يقول‏:‏ وتبدي عن شعر طويل تام، يزين ظهرها إذا أرسلته عليه‏.‏

وقوله‏:‏ غدائره مستشزرات إلى العلا، الغدائر‏:‏ الذوائب، جمع غديرة‏.‏ والضمير راجع للفرع‏.‏

قال الزوزني‏:‏ الاستشزار‏:‏ الرفع والارتفاع جميعاً، فيكون الفعل منه تارةً لازماً، وتارة متعدياً‏.‏ فمن روى بكسر الزاي، جعله من اللازم، ومن روى بفتحها جعله من المتعدي‏.‏ وجمله غدائره مستشزرات صفة أخرى لفرع‏.‏

قال التبريزي‏:‏ وأصل الشزر الفتل على غير جهة‏.‏

وقوله‏:‏ إلى العلا، يريد به شدها على الرأس بخيوط‏.‏ والعقاص‏:‏ جمع عقيصة، وهو ما جمع من الشعر، ففتل تحت الذوائب، وهي مشطة معروفة، يرسلون فيها بعض الشعر، ويثنون بعضه‏.‏ فالذي فتل بعضه على بعض هو المثنى‏.‏

والمرسل‏:‏ المسرح غير مفتول، فذلك قوله في مثنىً ومرسل‏.‏ ويروى‏:‏ يضل العقاص بالياء التحتية على أن العقاص واحد‏.‏

قال ابن كيسان‏:‏ هو المدرى، فكأنه يستتر في الشعر، لكثرته‏.‏ ويروى‏:‏ تضل المداري، أي‏:‏ من كثافة شعرها‏.‏ والمدرى مثل الشوكة يصلح بها شعر المرأة‏.‏

وهذا البيت استشهد به صاحب تلخيص المعاني على أن في مستشزرات تنافراً لثقلها على اللسان، وعسر النطق بها‏.‏

وقوله‏:‏ وكشح لطيف‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، هذا أيضاً معطوف على أسيل‏.‏ والكشح‏:‏ الخصر، وأراد باللطيف الصغير الحسن‏.‏ والعرب إذا وصفت الشيء بالحسن جعلته لطيفاً‏.‏ والجديل‏:‏ زمام، يتخذ من السيور فيجيء حسناً ليناً يتثنى، وهو مشتق من الجدل، وهو شدة الخلق‏.‏

والمخصر‏:‏ الدقيق‏.‏ وساق أيضاً معطوف على أسيل‏.‏ والأنبوب‏:‏ البردي‏.‏ والسقي‏:‏ النخل المسقي‏.‏ والمذلل فيه أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنه قد سقي، وذلل بالماء، حتى يطاوع كل من مد يده إليه‏.‏

وقيل‏:‏ هو الذي يفيئه أدنى الرياح لنعومته‏.‏ وقيل‏:‏ الذي قد عطف ثمره ليجتنى‏.‏

وقيل‏:‏ الماء الذي قد خاضه الناس‏.‏ شبه ساقها ببردي قد نبت تحت نخل فالنخل يظله من الشمس، وذلك أحسن ما يكون منه‏.‏

قال الزوزني‏:‏ وتبدي عن كشح ضامر، يحكي في دقته زماماً من الأدم، وعن ساق يحكي صفاء لون أنابيب بردي بين نخل، قد ذللت بكثرة الحمل‏.‏

شبه ضمر بطنها بالزمام، وشبه صفاء لون ساقها ببردي بين نخيل يظله أغصانها، ليكون أصفى لوناً، وأنقى رونقاً‏.‏ ومنهم من يجعل السقي نعتاً للبردي أيضاً، والمعنى كأنبوب البردي المسقي المذلل بالإرواء‏.‏

وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏